السؤال.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أود أن أطرح عليكم مشكلتي مع صديقتي، التي تعرفت عليها منذ مدة، وهي ذات خلق ودين، ومن عائلة محترمة، أخبرتني بأنها ترتاح لي، ولذلك تود أن تخبرني ببعض مشاكلها، ولكنها بدأت تروي قصصًا غريبة، مثلًا: إنَّها تزوجت ثم طلقها زوجها، وإنَّها مصابة بالسرطان (عافانا الله)، ومرة أخبرتني بأنها أجرت عملية لإزالة الرَّحم وغيرها، كنت أتعاطف معها في البداية، وأدعو لها في الصلاة أن يشفيها الله من المرض، ولكن اكتشفت بعد مدة أنَّها تكذب بشأن المرض.
فهي تروي لكلِّ واحدة من صديقاتها رواية مُختلفة عن الأخرى (باختصار كلما ترى حادثة أمامها أو زواجًا، تتخيل نفسها تعيش تلك الحادثة)، أتعبتني معها، تقضي ساعات طوالًا لتتحدث معي في الهاتف عن تلك القصص الخيالية، بصراحة لم أعد أستطيع مجاملتها أكثر من ذلك، ولكني أخشى من جرح مشاعرها، لا أستطيع إخبار أهلها؛ لأني أخشى أن تنتحر إن عرف أهلها، خصوصًا أنها تروي قصصًا عن إخوتها وعلاقاتهم وغير ذلك، مع أنَّهم عائلة متدينة ومعروفة، ماذا أفعل معها؟
نسيت إخباركم بأنَّها مصابة بحول في عينيها، حتى إنَّها لا تستطيع الرؤية بوضوح، ووالدها مُتوفًّى منذ سنتين تقريبًا، بارك الله فيكم، وجزاكم خيرًا.
الجواب..أختي العزيزة لحن الحياة، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
هكذا يُكتَب اسمكِ باليابانية トラップ一家物語 ولا تظني إطلاقًا أنِّي أفهم اليابانية، كل ما في الأمر أني أتوقع بأن تكوني مُتابعة جيدة للمسلسل الكرتوني المدبلج "لحن الحياة"، أليس كذلك؟
إذًا؛ ما دُمنا في جو الطفولة والقصص التربوية، فدعيني أُذكِّرك دون سردٍ بقصتين شهيرتين عن عاقبة الكذب: إحداهما من التراث العربي، هي قصة "الراعي الكذَّاب والذئب"، والأخرى من التراث الغربي، وهي قصة "بينوكيو Pinocchio" الدمية الخشبية التي يطول أنفُها كلما تفوهت بكذبة.
وصديقتكِ هذه على ما يبدو من هذه النوعيَّة من الناس، أعني من نوع "الراعي الكذاب وبينوكيو"، والتي تسمى بالإنجليزية A compulsive or pathological liar؛ لأن لها خيالًا مرَضيًّا يدفعها للكذب، واختلاق القصص على نحوٍ مستمر وثابت، وبالتأكيد هذا الأمر ليس طبيعيًّا، بل هو اضطراب نفسي يعرف باسم "هوس التهويل والمبالغة في الكذب" Mythomania، أو Compulsive lying أو Pathological lying يهدف إلى الإشباع الوهمي لرغبات مكبوتة، ولكسب الاهتمام والعطف، ولفت الانتباه، وتأكيد الذَّات والحضور الاجتماعي.
ينجح أمثالُ هؤلاء في كسب تعاطف الناس معهم، وجذب الانتباه إليهم، لكن متى تبيَّن كذبهم، فإنهم يَخْسَرون كل من حولهم من الأحبَّة والأصدقاء والزُّملاء في المدرسة والعمل، فالنتيجة إذًا تصبح عكسية تمامًا؛ لأنهم يخسرون كل علاقاتهم الاجتماعية، ويحطمونها بأيديهم.
تبدأ جذور الكذب في أغلب الأحيان من الأسرة؛ نتيجة للنقص العاطفي، ونقص الأمان ومشاعر الخوف، ومن خلال تشجيع الكذب لدى الطِّفل، حتى يكبر وهو يكذب؛ مستفيدًا من الكذب بما يحققه له من منافع شتى، كتحقيق الحماية، وتفادي العقوبة، وتأكيد الذَّات، وتلبية الحاجات، ونحو ذلك، إلى أن تصبح في الكبر: سمة شخصية، وأسلوب حياة، وإدمان عادة، ويصبح الكذاب سجينًا لكذبه.
قال أبو حاتم ابن حبان: "كلُّ شيء يُستعار ليتجمَّل به سهل وجوده، خلا اللسان، فإنَّه لا يُنبئ إلا عمَّا عُوِّد، والصدق ينجي والكذب يُردي".
كيفية التعامل مع الكذب المرَضي:
أولًا: حافظي أنتِ على صدقكِ معها، ولا تجعلي كذبها عليكِ أو صَدمتكِ بها سببًا في استسهالكِ الكذب، أو اعتماده كأسلوب عقاب، يَجب أن تستمري في صدقكِ معها؛ ليكتبكِ الله عنده من الصادقات.
ثانيًا: كوني لطيفة في تعاملكِ معها، ولا تستخدمي الصُّراخ أو الغضب أو الكلمات الجارحة كردَّات فعل على أكاذيبها التي ما عادت تحتمل؛ لأنَّ ذلك سيدفعها لمعالجة كذبها عليكِ بأكاذيب أخرى.
ثالثًا: اصبري عليها، فأنتِ بحاجة إلى جرعات مركزة من الصَّبر والاصطبار في التعامُل مع هذه الشخصية المضطربة، فقد صبر نبيُّ الله يعقوب - عليه السَّلام - على كذب أبنائه عليه بشأن غياب يوسف - عليه السَّلام - تلك الليلة التي اصطحبوه فيها للعب معهم؛ يقول الله: ﴿ وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].
احتسبي الأجر في ذلك؛ لأنَّكِ ستنقذينها من خصلة سيئة كريهة للغاية، بل هي رأس الذنوب التي تقودنا إلى النار والعياذ بالله؛ فعن عبدالله - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا))؛ رواه البخاري.
رابعًا: لقد اعتبرتِ نفسكِ صديقتَها، ومن واجب الصديق النُّصح لله؛ لأنَّ الصداقة لا يمكن أن تكون يومًا ما مرادفة للمجاملة، ولا يُمكن بحال أن تكون صورة للكذب؛ فهي من اسمها مشتقة من الصدق، فاصدُقيها في التعامُل، وأخبريها بطريقة لطيفة بأنكِ تخشين عليها من الكذب، وعاقبة الكذب، وتأثير الكذب على صحتها العقليَّة، واجهيها بدايةً بالأكاذيب التي ترينها صغيرة - مع تحفظي لكلمة صغيرة، وبيضاء، ونحو ذلك؛ لأنَّ الكذب كذبٌ صَغُر أو تلوَّن - وتوقعي منها أن تستعمل دفاعات شرسة عن نفسها، فإذا كنتِ تَمتلكين الأدلة على كذبها فأخبريها بها؛ لتدرك أنَّها في مشكلة، وأن عليها علاجها فورًا.
يمكنكِ بدء المصارحة معها على هذا النحو مثلًا: "فلانة، تعرفين كم أحبكِ! وكم أدعو لكِ في صلواتي! وأتمنى لكِ الخير من كل قلبي، لكني بدأت أشعر مؤخرًا بالانزعاج والضيق من بعض الأشياء التي تخبريني بها عن نفسكِ، كقصة مَرضكِ وطلاقكِ، فأنتِ تحكين لي شيئًا وتحكينه لغيري بشكل مغاير، فلمَ تتصرفين هكذا؟! أنا لست بحاجة لأن أعرف أنكِ مريضة مرضًا خبيثًا؛ لأستمر في صداقتكِ... إلخ".
استخدمي أسلوبكِ والكلمات التي اعتدتِ عليها في خطابكِ معها، سائلةً المولى القدير أن يشرح لكِ صدركِ، وييسر لكِ أمركِ، ويحلل عقدة من لسانكِ يفقه قولكِ.
خامسًا: هي حريصة على صداقتكِ، وكسب ثقتكِ، فاجعلي الصداقة هنا ورقتكِ الرابحة التي تقومين بتهديدها بها إن هي لم تكفَّ عن الكذب عليكِ، وقَللي من الوقتِ الذي كنتِ تقضينه معها للإصغاء إليها، أخبريها بأنكِ تكرهين الكذب، وأن المؤمن الحق لا يكذب، واستدلي بالأدلة على ذلك؛ فقد قيل لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيكونُ المؤمن جبانًا؟ فقال: ((نعم))، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلًا؟ فقال: ((نعم))، فقيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ فقال: ((لا))؛ رواه مالك في الموطأ.
يَجب أن تعرف أن هناك حدودًا في العلاقة، وخطوطًا حمراء، إن هي تجاوزتها واستمرت في تجاوزها، فلا يُمكن لكِ أن تستمري معها، وكوني جادة في قولكِ ذلك.
سادسًا: إن لم تفلح محاولاتكِ الفردية معها في كف أكاذيبها، فاتفقي مع صديقاتكِ اللاَّتي تحدثتْ هي إليهنَّ بشأن مرضها، على اجتماع مرتب تلتقين فيه جميعًا معها؛ لمواجهتها بالخيوط الملونة التي نسجتها لقصتها الموهومة، اتفقي مع صديقاتكِ أولًا على أن يكون اجتماعكن لهدف علاجي بحت، بحيث تُحترَم هي فيه كإنسانة، ولا تجرحيها بكلمة تؤذيها مهما بلغ استياؤكن منها؛ فالغاية من هذا الاجتماع علاجية، ولا يمكن أن نعالج أحدًا بإيذائه، أليس كذلك؟
سابعًا: اطلبي منها وبكلِّ مودة أن تعرض نفسها على اختصاصية نفسية؛ لطلب المساعدة والعلاج النفسي؛ إذ يجب في الحقيقة أن تقوم هي بعمل شيء من أجل نفسها، وأن تَمتلك إرادة التغيير والتعاون؛ لأنكِ وحدكِ لن تكوني قادرة على التغيير، إن لم تنبع الرغبة في التغيير من داخلها هي، والله - عزَّ وجلَّ - يقول في محكم كتابه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
بالنسبة لمشكلة الحوَل، فلا علاقةَ لها بالكذب المرضي، لكن وصفكِ لها فيه حكمة: "حتى إنَّها لا تستطيع الرؤية بوضوح"، يبدو أن قلبها مثل عينيها، فهي لا ترى الدُّنيا بعينيها بوضوح، مثلما لا ترى الحقيقة بقلبها بوضوح، نسأل الله لها الشفاء مما هي فيه، ولكِ أنتِ الأجر والسَّلامة والسعادة.
ختامًا:
الكذب الذي يجري على لسان العدو قبيح، لكنَّه من لسان الحبيب أقبح، وكفى بالصادقين بلاءً إحسانهم الظَّن فيمن نعيمُ حياتِهم في الكذب عليهم، فيا رب لا تحرم الصادقين الصابرين جنات المتقين، التي قلت لهم في وصف نعيمها: ﴿ لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا ﴾ [النبأ: 35]، آمين.
دمتِ بألف خير، ولا تنسيني من صالح دعائكِ.
الكاتب: أ. عائشة الحكمي
المصدر: موقع الألوكة